التربية الكشفية و تحديات القرن الحادي و العشرين

آراء و تأملات

يعيش العالم في العصر الحالي حالة من التدفق والتسارع في العديد من مجالات المعرفة، من الاقتصاد، للسياسة إلى الظواهر الاجتماعية عموما. وتشكل هاته التغيرات المستطردة والتداخلات الثقافية و القيمية، ، تحديا كبيرا و حقيقيا للتربية. فأي تربية نُعِدُّ بها الطفل لهذا المستقبل المجهول الهُوية، غير واضح المعالم؟
سؤال ينضاف إلى العديد من الأسئلة الأخرى حول المنظومة التربوية عموما و علاقتها بالشأن الديني و السياسي و المجتمعي و الاقتصادي، و كيف يمكنها أن تساهم في إعداد جيد لرجل المستقبل لحسن تدبير علائقياته مع هاته المجالات المختلفة و المتداخلة.
و لمحاولة الجواب على هذا السؤال، سنحاول بيان كيف يمكن لمبادئ التربية الكشفية أن تُسهم في توفير بديل محتمل عبر مناهج و طرق قد تحمل في طياتها إجابات لبعض الإشكالات والتحديات التي تواجه التربية في القرن الواحد و العشرون. و هي أفكار و نقاشات ترصد معالم العلاقة بين التربية الكشفية و أهم المجالات التي تؤثر أو تتأثر بها التربية فق المحاور التالية:
أولا : التربية الكشفية والدين
ثانيا : التربية الكشفية والعولمة
ثالثا : التربية الكشفية والديمقراطية
رابعا : التربية الكشفية والاقتصاد
أولا : التربية الكشفية والدين.
تعترض الكتابة حول العلاقة بين التربية الكشفية و الشريعة الإسلامية، صعوبات جمة:
فعلى المستوى المنهجي استوقفتني حقيقةً، صعوبة استقلال النص عن ذات صاحبه وانعكاسها عليه بالضرورة، فوجدت نفسي بين سيفين يهددان مقدار الموضوعية التي أبتغيها للكتابة في موضوع كهذا. فهل من سبيل إلى التخلص مما أُكِنُّه من حب و هوس بالتربية الكشفية، مع ما يحمله من احتمال تحويل الموضوع إلى مقال يبحث في التراث الإسلامي عن مبررات تعزز شرعية مبادئ التربية الكشفية وتضفي عليها القداسة الدينية. فأكون أنطلق من التربية الكشفية كأصل وأوظف النص الديني فقط، لتعزيزها و مدح ما جاءت به، منتزعا النصوص من سياقها الشمولي العام لتبرير السلوكيات الإنسانية المحدَثة.
و من جانب آخر، خشيت إن أنا انطلقت من النص الديني، أن أكون كمن يحاكم التربية الكشفية فيُصنف ما جاءت به من محدَثات بين الحلال والحرام فأرفض كل محدَثة لا توافق الشريعة، فأكون إما أهدم البناء التربوي للحركة الكشفية، أو أتجنى على الدين الإسلامي بفهم خاص، قد يكون الدين منه براء.
مفارقتان جعلتني أُقدِمُ وأُحْجِمُ، و أمدُّ خطوة وأتراجع بأخرى ، قبل العزم على خوض التجربة و إخراج ما في جعبتي للعلن حتى تُقاس الأفكار بالأفكار و تُنار العقول بالأنوار. فاخترت أن أتجرد من هويتي الكشفية دون أن أتوانى عن استحضار تجربتي فيها، لأناقش الحركة من منظور مُسلم غيور على دينه يحاول تبليغ ما وعاه منه، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم ” بلغوا عنّي و لو آية” محاولا تحري الموضوعية ما استطعت إلى ذلك سبيلا و اعتماد الحجة و الدليل العقليان إن غاب الاستدلال النقلي، و القرينة عند غياب الحجة. و الله الموفق والمستعان.
بعد المقدمة المنهجية، أبدأ بمناقشة الأسس الفكرية والعقدية التي تنبني عليها كل من التربية الكشفية والتربية الدينية الإسلامية. فالتربية الكشفية مبنية على فلسفة “الواجب” فالمنتسب إليها بأدائه القسم يرتب على نفسه التزامات يجب أن يقوم بها وأن يسعى دائما لتطبيقها. فدستور التربية الكشفية (قانون الكشاف) هو دستور واجبات والتزامات بامتياز وحَصْر. وفي هذا فائدة كبرى حيث يجعل الفرد منشغلا بذاته وسلوكياته دائم الحرص على تهذيبها واستقامتها بما يضمن تربية ذاتية دائمة ومستمرة.
فلسفة الواجب هذه أجد لها تقاطعا كبيرا مع العقيدة الإسلامية وانسجاما تاما معها. فإن الله تعالى جعل الإنسان في الأرض لمهمة اسْتِخْلافِيّة لخصها القرآن الكريم في عمارة الأرض وإصلاحها. فوجود الإنسان في الأرض مبني على أساس أداء مهمة أي القيام بواجب وليس من أجل الاستمتاع وأخذ حقوق، خلافا لما آلت إليه منظومة الأَنْسَنَة والحداثة التي تجعل المهمة الوجودية للإنسان هي الاستمتاع وأخذ الحقوق.
وهذه الخلاصة مستقاة من قصص الأنبياء في القرآن. فوجودهم كان مرتبطا بأداء مَهامّ وبالقيام بواجبات العمارة والإصلاح فلا تجد في سيرهم أي مؤشر على الاستمتاع بالحقوق ومُتع الدنيا فحتى من كان ملكا أو وزير، كان عاملا قائما بواجباته فيوسف لما ملك خزائن الأرض جاب مصر طولا وعرضا لإصلاح الأراضي ونشر العدل وضمان الأمن الغذائي، وداوود وسليمان، المَلِكان، لم يستمتعا بمُلكهما بل سخراه في أداء المهمة الاستخلافية لأن الأصل في ملكهم هو أداء الواجب وليس الاستمتاع بالحقوق.
وهكذا نجد أن البنية العقدية والأسس الفكرية التي بُنيت عليها التربية الكشفية تنسجم في هذه النقطة مع الشريعة الإسلامية، من حيث اعتبار أن وجود الإنسان يجب أن يتأسس على أداء الواجبات وليس على أخذ الحقوق. وهذا التوافق ليس غريبا ولا مُستهجنا، على اعتبار أن مُؤسِّس الحركة الكشفية، البريطاني بادن بأول، نشأ تنشئة دينية عريقة، وسط عائلة كاثوليكية، والدين المسيحي (على ما طاله حسب اعتقادنا من تغيير) لم يخرج عن هذه الأهداف والمقاصد التي أرسل الله تعالى بها رُسُله. فانعكست هاته التعاليم الدينية على البناء النظري الذي ارتضاه بادن باول لحركته حين أنشأها فجعلها ترتكز على فلسفة الواجب كما عَلّمه دينه.
إن كانت الحركة الكشفية والدين يتفقان، في ارتكازهما على مبدأ الواجب كأساس فكري، فإنهما يتعارضان إلى درجة التضاد في ذلك مع المنظومة القيمية والعقدية لعالم الحداثة وما بعد الحداثة والذي يبني فكره على فلسفة ”الأنسنة” ومبادئ ”الفردانية”، ساعيا إلى ضمان استمتاع الإنسان (ذلك الكائن العظيم المقدس والعاقل الوحيد في الكون) بكل حقوقه. فتأسس الوجود كله، في عالم الحداثة، على فلسفة ”الحق”.
وللأسف فإن فلسفة الحداثة (والليبرالية) تُخفي من ورائها اعتقادا يُنْكِر حقيقة البعث والحياة بعد الموت. فتحصر الوجود الإنساني في حياته الدنيا فقط، لذلك عليه أن يسعى إلى أخذ حظِّهِ منها قبل الموت، فبالموت ينتهي كل شيء. بخلاف الديانات الإبراهيمية، التي تُحقر من الحياة الدنيا ومُتَعِها مقارنة بنعيم الجنان التي أعدها الله لعباده الذين أدوا المهمة (الواجب) المناطة بهم بإخلاص. فيعد القرآن من “آمن وعمل صالحا” (أداء واجب) بالنعيم والفلاح. بينما تحرص الأنسنة على استمتاع الإنسان بحقوقه كلها خلال حياته الدنيا فبموته يفنى.
ومنه نفهم كيف أن موجة الأنسنة وفلسفة الحقوق ترعرعت وانتشرت بشكل أسرع في الأوساط الإلحادية أو اللادينية والليبرالية (المتحرِّرة من الدين) ووجدت مقاومة وتحفظا كبيرين في الأوساط المُتَديِّنَة قبل أن تتراخى بدورها بفعل الضغط المستمر والمتواصل.
وقد نجد في هذا بعض الجواب على تراجع العمل الكشفي وتردي جودته وعزوف الشباب عنه. فكل إنسان حداثي إلا ويبحث عن حقوقه ومتعه بنزعة فردانية استمتاعية، بينما الحركة الكشفية بما تُرتبه من التزامات وواجبات لا تضمن له ذلك، لذلك تبدو الحركة الكشفية غير منسجمة مع البنية الفكرية والعقدية لغالب روادها فيكون الحَلّ إما أن يغادروها أو يحوِّلوا مسارها وأهدافها لتحقيق أهوائهم وميولاتهم الفردانية أي كسب حقوقهم.
في إطار تحليل فلسفة الواجب التي نجدها في المبادئ الكشفية كما في الدين الإسلامي الحنيف، استوقفني كثيرا مبدأ ”الواجب نحو الله نحو الذات ونحو الآخر” الذي نرتكز عليه في المنظومة الكشفية، وحاولت أن أجد له أصلا في الدين الإسلامي فلم أجد. فالإسلام يرتكز على عقيدة التوحيد باعتبار الله تعالى وحده أصلا وغاية لكل شيء لا شريك له في الملك. فتبادر السؤال لماذا نقرن الذات والآخر بالله عز وجل؟ أليس في ذلك شرك خفي؟ أليست الذات ملكا لله تعالى خلقها لعبادته ووجب تسخيرها في طاعته؟ فلِمَ نَقْرن الواجب تجاهها بالواجب تجاهه؟ وأكيد أن الإسلام يحثنا على الإحسان للآخر، لكن هل يكون ذلك إلا في إطار الامتثال لأوامر الله تعالى أم أن الواجب نحو الآخر واجب مستقل بذته؟
إن التفكير في المبررات الشتّى التي يمكن أن تقدم لاستساغة هاته الثلاثية يُذكِّر بمجمل المبررات التي يقدمها النصارى للدلالة على وحدة الثالوث المقدس لديهم (الأب-الابن-الروح القدس) خروجا من مأزق التثليث الذي توارثوه. ومن هنا يتبادر للذهن الافتراض التالي: ألا يعكس هذا الاختيار عقيدة التثليث التي يُؤمن بها مؤسس الحركة الكاثوليكي اللورد بادن باول؟. فلا يمكن أن نتجاهل حقيقة أن الإنسان يستحيل أن يتجرد من شخصيته ومن عقيدته التي تنعكس بالضرورة على نتاجاته الإنسانية، شعر بذلك أو لم يشعر، قصده أم لا. ففي الإسلام، الله واحد لا شريك فكيف نقرِنُ الواجب نحو الذات ونحو الآخر بالواجب نحوه سواءً بسواء؟ والواجب نحو الذات والآخر هو بذاته واجب نحو الله فلماذا نفصل بينهما؟
ثانيا : التربية الكشفية و القيم العولمية
تفرض العولمة نفسها في الوقت الراهن ليس كمنظومة اقتصادية فحسب بل كمنظومة قيم فردية ونمط اجتماعي. فإلى أي حد ينسجم هذا النمط مع التربية الكشفية و كيف تتأقلم هته الأخيرة معه؟
تدفع العولمية في اتجاه منظومة استهلاكية عالمية، تُعزز تموقعها وانتشارها عبر تغيير القيم الفردية نحو مزيد من الاستهلاك والاستمتاع وتغيير النمط الاجتماعي نحو التّمْدين (التمركز بالمدن والمناطق الحضرية). وهاذان المعطيان هما على النقيض من مبادئ وأسس الحركة الكشفية. فالتربية الكشفية ترتكز في طريقتها على نظام الجماعة، والعمل الجماعي الذي يتطلب نُكراناً للذات في سببل الجماعة وتحقيق التقدم الذاتي بما يضمن التكامل في الأدوار داخل الجماعة الصغيرة والمجموعة الكبيرة. كما يُعتبر الاقتصاد في الاستهلاك عقيدة و مطلبا عند الكشاف، والسعي للتدوير والاقتصاد منهجا. وهذا يتنافى والثقافة العولمية المُعوِّلة على الاستهلاك لدوران عجلة اقتصادها، وعلى الفردانية لتوفير اليد العاملة لقطاعاتها الإنتاجية.
تدفع العولمة في اتجاه تركيز السكان في المدن و التجمعات الكبرى لما في ذلك من تحفيز لنفس النمط الاستهلاكي لوسائل الترفيه والرفاه. وهذا يتنافى مع مبادئ الكشاف فحياة الكشاف تكون في البراري، وحياة الخلاء من عناصر الطريقة الكشفية، التي يمارسها الكشاف بأدوات أولية بسيطة، بعيدا عن جو الرفاهية والاستهلاك المنشود من قبل العولمة.
وقد أثر هذا المد العمراني على انتشار التربية الكشفية، لاعتياد الإنسانية على حياة المدن والرفاهية وانحصار فضاءات حياة الخلاء المناسبة للممارسة الكشفية. كما أن هته الأخيرة أصبحت تفقد من أصالتها بسبب انحصار أنشطة حياة الخلاء في البرامج الكشفية بالمدن الكبرى عبر العالم.
لكن بالمقابل، توفر التربية الكشفية عنصرا رئيسا في خدمة العولمة الثقافية والهوياتية. فبالارتكاز على بُند: الكشاف أخ لكل كشاف وصديق للجميع، تتمكن الحركة الكشفية من صياغة معالم هوية عالمية لا تستصنم لأي معيار عرقي، لغوي، عقدي أو جغرافي، بما يُسهل خلق هوية عالمية تؤاخي بين شعوب العالم وتجمعهم حول مبادئ وأسس فوق عرقية و فوق جغرافية وفوق دينية.
زمن جهة أخرى تُعلم التربية الكشفية الفتية والشباب مهارة التأقلم مع الظروف وتُكسبهم مرونة في التعامل مع مستجدات الأوضاع الطبيعية و البشرية و المادية، وفي الأوساط المختلفة. وما أحوج العولمة، بتغيراتها التقنية و العلمية المتسارعة لمواطنين يملكون هته المرونة والمهارة في التكيف و التأقلم معها.
ثالثا : التربية الكشفية و الديمقراطية
تُؤسس التربية الكشفية لمعالم الممارسة الديمقراطية على مستوى الجماعات الصغيرة والمجموعة الكشفية. لكن تتجاوز هاته الممارسة بجعلها تخضع لتنظيم تراتبي ذي مرجعية قيمية أعمق وأشمل.
فعلى مستوى الوحدة الكشفية نجد أن النظام الكشفي يشترط منذ المراحل السنية الأولى إشراك الأفراد في منطومة اتخاذ القرار عبر مجلس الشرف (يضم قادة السرب والسداسيين) الذي يُستشار فيه الفرد من قبل قادة السرب. تتطور هاته الاستشارة إلى مشاركة في اتخاذ القرار في مرحلة الكشافة من خلال مجلس الصخرة (يضم قادة الكتيبة وعرفاء الطلائع)، ثُم إلى سلطة اتخاد القرار عبر المناقشة والتصويت من قبل الكشاف المتقدم في مجلس الفوج الذي يكتفي فيه القادة بدور التوجيه والمواكبة، إلى أن يستقلوا كليا بسلطة اتخاذ القرار وتنفيذه في مرحلة الجوالة ليكون الرفيق مستشارا فقط. مما يُعزز الممارسة الديمقراطية في سلوك الفتية والشباب ببعديها المباشر والتمثيلي. فاختيار الأفراد لعريف الطليعة الذي يُمثلهم في مجلس الكتيبة يمهد لترسيخ الديمقراطية التمثيلية مع امتياز أن هذا الاختيار لا يكون وفق مزاجية أو استقطاب انتخابوي ولكن وفق كفاءة فردية ومعايير موضوعية معرفية ومهارية عند الممثِّل. وتمتد هاته المنهجية المعيارية في الاختيار المبني على الكفاءة والاستحقاق إلى القيادات التربوية عبر التمييز بين قائد الوحدة (من اجتاز بنجاح تدريب الدورة المتقدمة) ومساعد القائد (من اجتاز بنجاح التدريب الأساسي) والقائد المساعد (من اكتفى بالتدريب الإعدادي). وهذا ما يُميز الممارسة (الديمقراطية) في الوحدات الكشفية عن سياسة الاستقطاب التي أفسدت الممارسة السياسية وانتقلت لبعض التنظيمات الكشفية مُفقدة إياها أصالتها وتميزها.
أضافة إلى عنصر التربية على المشاركة، فإن التربية الكشفية تعزز ثقافة الالتزام المجتمعي عبر منظومة قيم متكاملة. تجعل هذا الالتزام واجبا مقدسا على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
فمن خلال الوعد والقسم يترسخ في ذهن الطفل ذلك الالتزام الأخلاقي الفردي بضرورة الانضباط للتنظيم المجتمعي، ومن خلال القانون يتأسس التعاقد مع المجموعة على الأهداف العامة التي يشتغلون معا من أجل تحقيقها تُبلور في كل مناسبة عبر قانون داخلي يتوافقون عله.
مع ضرورة التنصيص على أن التربية الكشفية تمتاز بشمولية أكبر في أهدافها الوجودية، فلا تحصر الغاية الوجودية في تحقيق الإنسان لرغباته بل تجعل مهمته الكونية تشمل الحفاظ على الطبيعة والحيوان والاقتصاد في تدبير الثروات. بما ينسجم مع ما يُصطلح عليه حاليا بمبادئ التنمية المستدامة.
رابعا : التربية الكشفية و الاقتصاد
إن كانت التربية الكشفية تتعارض مع النمط الاستهلاكي للاقتصاد العولمة أو الاقتصاد النيوليبرالي، فإنها تُوفر لها بمنهجها أطر بشرية قادرة على إنعاش جزء غير يسير من مقوماته، يستوجب شرحها وبيانها.
يرتكز اقتصاد السوق على المقاولة كفاعل أساس في منظومة الإنتاج ويحيطها بكل الرعاية والحماية والأهمية متجاوزا المقاربة الذاتية المنبثقة عن مدارس قانون الدولة الحديثة. لكن إنجاح المقاولة يحتاج إلى موارد بشرية بعقلية مقاولاتية قادرة على التخطيط والتحليل والتوقع. ويُمكن القول أن هاته المبادئ والقيم أساسية في التربية الكشفية. فمن خلال الممارسة الكشفية يتعلم الطفل التخطيط لأنشطت وتدبيرها عبر تقسيم المهام وتوزيع الأدوار وتوفير الموارد المالية والمعدات اللازمة، ثم الإعداد التقني والتنفيذ وفق برنامج زمني مضبوط ومحدد، مع تقييم كل محطات الإنجاز إلى التقييم النهائي والاحتفال. كما أن التنشءة النفسية للطفل الكشاف تُكسبه جُل معالم الكاريزما القيادة التي يتمرس عليها عبر تدرجه في السرب والطليعة والفوج وعبر ممارسة مختلف المهام القيادية لجماعته الصغير ة كعريف أو لمهام قيادية كبالغ.
وتجدر الإشارة أن التربية الكشفية، وإن كانت تؤسس لتنشئة عقلية تدبيرية مقاولاتية بالمفهوم الحديث للكلمة، إلا أنها تؤسس بالموازاة مع ذلك لمجموعة من القيم الغائية التي تتجاوز ربما عيوب منظومة اقتصاد السوق. فبينما تهدف العولمة لإرساء اقتصاد إنتاجي تنافسي يساهم في تكديس الثروات بيد الأقوى وأقصاء الأضعف. تضمن التربية الكشفية فكرا مقاولاتيا تضامنيا يستطيع التخطيط والإنتاج لكن مستحضرا بعده الاجتماعي وواجبه نحو الآخر مؤسسا للبنة من صرح ما يسمى حاليا بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني عبر المقاولة الاجتماعية.
وحتى بعيدا عن مركز القيادة، فإن مناهج التربية الكشفية تضمن لأفرادها قدرة أكبر على التكيف والتأقلم ومرونة في التعامل مع الأوضاع والظروف المستجدة. فلا أصدق مثالا من قدرة الكشاف على التأقلم مع ظروف الطبيعة في حياة الخلاء وتطويعه للمواد والمعدات المتوفرة على قلتها للاستجابة لمتطلباته دونما استصنام لسبل الرفاهية التي اعتادتها الأجيال الجدية أو إبداء العجز أمام التحديات والظروف المستجدة. وإن هاته المرونة في السلوك والقدرة على التأقلم مع المستجدات والطوارئ مطلوبة ومرغوبة كمهارة حياتية أساس في ظل العولمة الاقتصادية الحديثة التي تتير فيها طبيعة المهن وحاجات السوق من الخبرات واليد العاملة كل وقت وحين. فيكون الكشاف بذلك مؤهلا للانخراط في منظومة الإنتاج العالمي مستعدا للتأقلم مع متغيرات سوق الشغل عبر مرونة ذهنية وقابلية للتعلم طوال الحياة وفق نموذج التقدم الذاتي الذي ألفه خلال مساره الكشفي.
والله الموفق والمستعان
مقال القائد الدكتور هشام الناصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »
إغلاق